فصل: سورة ص

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الصافات

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتح اللَّهُ هذه السورة بالقَسَم بالصافات، وهم الملائكة المصطفَّةُ في السماء وفي الهواء، وفي أماكنهم على ما أمرهم الحق- سبحانه- من المكان يلازمونه، والأمر يعانقون؛ يُسَبِّحونه ويُقَدِّسونه، وبما يأمرهم به يطيعونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

عَطَفهم على ما تَقَدَّمَ بحرف الفاء وهم الملائكة الذين يزجرون السحابَ‏.‏ ويقال يزجرون الناس عن المعاصي‏.‏ ويقال هي الخواطرُ الزاجرةُ عن المناهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقال «الصافات» الطيورُ المصطفَّةُ في السماء، ‏{‏فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً‏}‏ الملائكة يتلون كتاب الله، ويتلون الوحيَ على الأنبياء عليهم السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هذا هو المقسومُ عليه‏.‏

أخبر أنه واحدٌ في مُلْكِه، وذلك أنهم تَعَجَّبُوا أن يقوم الواحِدُ بجميع أحوال العالم‏.‏ ومعنى كونه واحداً تَفَرُّدُه في حقِّه عن القسمة، وتَقَدُّسُه في وجوده عن الشيبة، وتَنَزَّهُه في مُلْكِه عن الشريك؛ واحد في جلاله، واحدٌ في استحقاق جماله، واحدٌ في أفعاله، واحدٌ في كبريائه بنعت علائه، ووصف سنائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

مالِكُ السمواتِ والأرضِ وما بينهما، وخالقهما، وأكسابُ العبادِ داخِلةٌ في هذا ‏{‏وَرَبُّ الْمَشَارِقِ‏}‏ مشارق النجوم والشمس والقمر، ومشارق القلوب بشموسها وأقمارها ونجومها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

زَيَّنَ السماءَ الدنيا بالنجوم، وقلوبَ أوليائه بنجوم المعارف والأحوال، وحفظ

السمواتِ بِأَنْ جعل النجومَ للشياطين رجوماً، وكذلك زَيَّن القلوبَ بأنوار التوحيد، فإذا

قَرُبَ منها الشيطان رَجَمها بنجوم معارفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

كذلك إذا اغتنم الشيطانُ من الأولياء أن يُلْقِيَ إليهم شيئاً من وساوسه تَذَكَّرُوا، فإذا هم مُبْصِرون، ورجعوا‏.‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيَطانِ تَذَكَّرُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

عَرّفهم عَجْزَهم عن الإثبات، وضعفهم في كل حال، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادَةُ بحدوث مثله‏.‏ وتَقرأ ‏{‏عَجِبْتَ‏}‏ بالفتح خطاباً بالرسول صلى الله عليه وسلم- وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك مِنْ قبلَ نفسه بل عجبتُ، وَيقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء، إما في القدر، أو الإكثار في الذمِّ أو في المدح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

إذا ذُكروا بآياته يٌعرضون عن الإيمان بها والتفكَّر فيها، ويقولون‏:‏ ليس هذا الذي أتى به محمدٌ إلا سحراً ظاهراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قالوا‏:‏ أئذا متنا، تفرّقت أجزاؤنا، وَصرنا رميماً‏.‏‏.‏ أئنا لمبعوثون‏؟‏ أَوَ آباؤنا الأولون يُبعثون كذلك‏؟‏ قالوه على جهة الاستبعاد؛ فالمعرفة لهم مفقودة، والبصائر لهم مسدودة، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قل لهم يا محمد؛ نعم، وعلى وصْف الصغر ما يبعثكم، وبزجرة واحدة يحشركم، بعد أن يُقيم القيامة على جميعكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

دَوا بالويل على أنفسهم‏!‏ ويقال لهم‏:‏ هذا يَومُ الفصل الذي كنتم تكذبون به، وقد عاينتموه اليومَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

أراد بأزواجهم قرناءَهم وأشكالهم ومَنْ عمل مثل أعمالهم، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير‏.‏‏.‏ وكذلك في هذه الطريقة‏:‏ من أعان صاحبَ فترة في فترته، أو صاحب زَلة على زلته- كان مُشركاً له في عقوبته، واستحقاق طرده وإهانته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ‏}‏‏:‏ مقامُ السؤالِ مقامٌ صعبٌ؛ قوم يسألهم المَلَكُ وقومٌ يسألهم المَلِكُ؛ فالذين تسألهم الملائكةُ أقوامٌ لهم أعمالٌ صالحةٌ تصلح للعرض والكشف، وأقوامٌ لهم أعمالٌ لا تصلح للكشف، وهم قسمان‏:‏ الخواصّ يسترهم الحقّ عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة، وأقوامٌ هم أربابُ الزلات يرحمهم اللَّهُ فلا يفضحهم، ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بنعت الهيبة، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة، وفي الخبر‏:‏ «أن قوماً يسترهم بيده ويقول تذكر غداً ربك» وهؤلاء أصحاب الخصوص في التحقيق‏:‏ فأما الأغيار والأجانب والكفار فيقال لهم‏:‏ ‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏، فإذا قَرؤوا كتابهم يقال لهم‏:‏ من عمل هذا‏؟‏ وما جزاؤه‏؟‏ فيقولون‏:‏ جزاؤه النار‏.‏ فيقال لهم‏:‏ أدخلوها بحكمكم‏.‏

ثم يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزَع عليهم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يُورِّك بعضُهم الذنبَ على بعض؛ فهذا يتبرأ من صاحبه، وصاحبه يتبرأُ منه، إلى أن يحكم الله عليهم بالخزي والهوان ويجمعهم في اللعن والإبعاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم، كما أنهم يشترِكون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

احتجابُهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم؛ ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته‏.‏ ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 173‏]‏ فإنّ مَنْ عَرفَ اللَّهَ فلا لذة له إلا في طاعته، قال قائلهم‏:‏

ويظهرُ في الهوى عزُّ الموالي *** فيلزُمني له ذُلُّ العبيد

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لمَّا لم يحتشموا من وَصفه- سبحانه- بما لا يليق بجلاله لم يُبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الاستثناء راجعٌ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنَّكُمْ لَذَآئِقُواْ الْعَذَابِ الأَلِيمِ‏}‏‏.‏

ويقال الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ- سبحانه- بالعبودية، والذي يشوبُ عمله رياءٌ فليس بمخلص‏.‏

ويقال‏:‏ الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وفي الخبر‏:‏ «يا معاذ، أخلص العملَ يكفيك القليل منه»‏.‏

ويقال‏:‏ الإخلاصُ فقدُ رؤية الأشخاص‏.‏

ويقال‏:‏ هو أن يلاحظ محل الاختصاص‏.‏

ويقال‏:‏ هو أن تنظر إلى نفسك بعين الانتقاص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لهم رزقٌ معلومُ لأوقاتِ مُعينه، وفي وقت الرسول عليه السلام‏:‏ «مَنْ كان له رزقٌ معلومٌ كان من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة؛ فلهُمْ في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم ولأسرارهم، فالأغنياء لهم رزقٌ معلوم لأَنفسهم والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم‏.‏

‏{‏فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ‏}‏‏:‏ من ذلك ورود الرسول عليهم من قِبَلِ الله في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ واردٌ من الله على قلوب الخواص في كل وقت بكلِّ أمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

يستأنِسُ بعضُهم برؤية بعضٍ، ويستروح بعضُهم إلى لقاء بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

شراب يوجِبُ لهم الطَّرَدَ ولا وحشةَ هناك، شراباً يُحْضِرَهم ولا يُسْكِرُهم، لأَنه قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

فلا تغتالُ عقولَهم ولا تُزِيل حِشْمَتُهم، ولا تَرْفَعُ عنهم هَيْبَتَهم؛ فقومٌ يشربون وهم بوصف الستر، وآخرون يُسْقَوْن في الحضور- وهم على نعت القُرْب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

لا يَنْظُرْنَ إلى غير الوليّ، ثم الوليُّ قد ينظر إليهن، وفيهم مَنْ لا ينظر إليهن‏:‏

جُنِنَّا بِلَيْلَى وهي جُنَّتْ بغيرنا *** وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدها

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يتذاكرون فيما بينهم، ويذكرون مِنْ معارفهم مَنْ لا يُؤْمن باللهِ، وما آمن به

المؤمنون فيخلق اللهُ لهم إطلاعاً عليه وهم في النار يحترقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

نَطَقَ الوليُّ بالحقِّ ولكنه لم يُصَرِّحْ بعين التوحيد؛ إذ جَعَلَ الفَضْلَ واسطةً، والأَوْلى أن يقول‏:‏ ولولا ربي لكنتُ من المحضرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

يقال‏:‏ بل الملائكةُ يقولون لهم هذا، ويقال‏:‏ الحقُّ-سبحانه- إذا أراهم مقامَهم في الجنة يقول لهم‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هّذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏‏.‏

ويقال إِنْ كان العابدُ يقول هذا، أو يقال له هذا إذا ظهرت الجنة فإِنه إذا بَدَتْ شظيةٌ من الحقائق وتباشير الوصلة، أو ذَرَّةٌ من نسيم القربة فبالحريِّ أن يقوْل القائلون‏:‏ لِمِثْلِ هذه الحالة تُبْذَلُ الأرواحُ‏.‏

على مِثْلِ سَلْمَى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه *** وإن بات من سَلْمى على اليأس طاويا

وها هنا تضيق العبارات، وتتقاصر الإشارات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

ذَكَرَ صفة هوان الأعداء، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار؛ من أَكْلِ الضريع، ومن شراب الزقوم التي هي في قُبْح صورة الشياطين، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم *** إلى آخر القصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏‏}‏

لمَّا أَصَابه مِنْ الأذى مِنْ قومه حِين كذَّبوه، ولم يسمعوا منه ما كان يقول مِنَ حَديثنا‏.‏‏.‏ رَجَعَ إلينا، فخاطبنا وخاطبناه، وكلمنا وَكلمناه، وَنادانا فناديناه، وكان لنا فكَّنا له، وأجابنا فأجبناه‏.‏‏.‏ فَلَنِعْمَ المجيبُ كان لنا ولنعمَ المجيبون كُنَّا له‏!‏

‏{‏مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ‏}‏‏:‏ شتان بين كَرْبِ نوحٍ وبيْن كَرْب أهله‏!‏

وما يبكون مثلَ أخي ولكن *** أُعزِّي النَّفْس عنه بالتأَسي

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

لأنَّ الناس كلهم مِن أَولاد نوح، فإنَّ مَنْ كان معه في السفينة لم يتناسلوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

يريدُ به قول الناس عنه إلى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏‏}‏

يعني أَنَّ إبراهيم مِنْ شيعة نوح عليه السلام في التوحيد- وإنْ اختلفنا في فروع شرعيهما‏.‏

‏{‏قلب سليم‏}‏‏:‏ لا آفة فيه‏.‏ ويقال لديغ مِنَ المحبة‏.‏ ويقال‏:‏ سليم من محبة الأغيار‏.‏ ويقال سليم من حُظوظ نفسه وإرادته‏.‏ ويقال‏:‏ مستسلم لله في قضائه واختياره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

سألهم على جِهة الإنكار عليهم، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

إذا لقيتموه- وقد عَبْدتم غيرَه‏.‏‏.‏ فما الذي تقُولون له‏؟‏ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم- غافلين عنه‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قيل أراد «إلى» النجوم فأقام «في» مقامَ «إلى»‏.‏

‏{‏إنِّى سَقِيمٌ‏}‏‏:‏ كانت تأتيه الحمَّى في وقت معلوم، فقال‏:‏ قرُبَ الوقتُ الذي أسقم فيه مَنْ أخذِ الحمَّى إياي، فكأنه تعلل بذلك ليتأخرَ عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نَفْسه من كسر الأصنام‏.‏

ويقال كان ذلك من جملة المعاريض‏.‏ وقيل أرى من نفسه موافقة قَوْلهم في القول بالنجوم لأنهم كانُوا يقولون بالنجوم، فتأخر بهذا السبب عنهُم‏.‏

وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنَّ اللَّهَ- عزّ وجلّ- قد عرّفه بطريق الوحي أنه يخلق- سبحانه- باختياره أفعالاً عند حركات الكواكب‏.‏

ثم لمَّا ذَهبوا إلى عيدهم كَسَّرَ أصنامهم، فلمَّا رجعوا قالوا ما قالوا، وأجابَهُمْ بما أجابهم به إلى قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

رَدّ اللَّهُ كيدهُم إلى نُحورهم‏.‏ وقد تعرَّضَ له جبريلُ-عليه السلام- وهُوَ في الهواء وَقَد رُمي من المنجنيق فعرَضَ عليه نفسه قائلاً‏:‏ هل مِنْ حاجة‏؟‏

فأجابَ‏:‏ أَمَّا إليكَ *** فلا‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقال إنه طلبَ هداية مخصوصة؛ لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه‏.‏ ويحتمل أنه كان صاحبَ هدايةٍ في الحال وطلبَ الهداية في الاستقبال أي زيادةً في الهداية‏.‏ ويقال طلبَ الهداية على كيفية مراعاة الأدَب في الحضور، ويقال طلبَ الهداية إلى نفسه لأنه فقدَ فيه قلبه ونفسه فقال سيهديني إليَّ لأقومَ بحقِّ عبُوديته؛ فإن المستهلكَ في حقائق الجمع لا يصحُّ منه أداء العبادة إلاَّ بأن يُردَّ إلى حَالة التفرقة والتمييز‏.‏

ومعنى ‏{‏إِلَى رَبِّى‏}‏ أي إلى المكان الذي يُعْبدُ فيه ربي‏.‏

ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال‏:‏ ‏{‏إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى‏}‏‏:‏ فأخْبر عن قوله‏.‏

وأخبر عن موسى فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، فأخبر عن صفته لا عن قوله‏.‏‏.‏

وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ‏[‏فأخبر عن ذاته سبحانه‏]‏‏.‏

وفصلٌ بَينَ هذِه المقامات؛ فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعينِ الجمع؛ ونبينا كان بعين جمع الجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

لمّا قال «حليم» نبَّهَ على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ‏}‏ إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد، رأى إبراهيم- عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية، وسميت كذلك لأنه كان يُروَّي في ذلك طولَ يومه‏.‏ هَلْ هُو حقٌّ أم لا‏؟‏ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق، فسمي يوم عرفة‏.‏

وكان إسماعيل ابنَ ثلاث عشرة سنة، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات‏.‏

أن اذبح ابنك، فقال لإسماعيل‏:‏ ‏{‏يَآ بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى‏؟‏‏}‏ فقال إسماعيل‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ‏}‏‏:‏ أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه، وإن كان له تاويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ لوكن لا يمكنك تلافيه‏.‏

ويقال بل قال‏:‏ أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر، وأحملْ الأمر عَلَى الوجوب، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ‏.‏

ويقال قال له‏:‏ إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبي أن يذبحنى أبي لأجل الله‏.‏

ويقال قال إسماعيل لأبيه‏:‏ انتَ خليلُ الله وتنام‏.‏‏.‏ أَلَمْ تعلَمْ أن الخليلَ إذا نام عن خليله يُؤْمَرُ بِذَبْح ابنه‏؟‏ مَالَكَ يا أَبَتِ والنوم‏؟‏

ويقال في القصة‏:‏ إنه رآه ذات يوم راكباً على فَرَسٍ أشهب فاستحسنه، ونَظَرَ إليه بقلبه، فأُمِرَ بِذَبْحِه، فلمَّا أخرجه عن قلبه، واستسلم لذبحه ظَهَرَ الفداء، وقيل له كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك عنه‏.‏

ويقال في القصة‏:‏ أَمَرَ إسماعيلُ أباه أن يَشُدُّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذَّبح فَيُعاتَب، ثم لمَّا همَّ بِذَبْحِه قال‏:‏ افتحْ القيدَ عني حتى لا يقال لي‏:‏ أمشدودَ اليد جئتني‏؟‏ وإني لن أتحركَ‏:‏

ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمَّاً *** لكان السُّمُّ من يدِهِ يطيب

ويقال أيهما كان أشدَّ بلاءً‏؟‏ قيل‏:‏ إسماعيل؛ لأنه وَجَد الذَّبحَ من يد أبيه، ولم يتعوَّد من يده إلاَّ التربية بالجميل، وكان البلاءُ عليه أشدَّ لأنه لم يتوقع منه ذلك‏.‏

ويقال بل كان إبراهيم أشدَّ بلاءً لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعدَه‏.‏

‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ فلم يأتِ إسماعيل بالدعوى بل تأدَّب بلفظ الاستثناء‏.‏

ويقال لو قال إسماعيل إمَّا لا تَقُلْ‏:‏ «يا بُنَيَّ» بهذه اللطافة، وإمَّا لا تَقُلْ‏:‏ ‏{‏أَنِّى أَذْبَحُكَ‏}‏ فإنَّ الجمعَ بينهما عجيب‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 105‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قيل في التفاسير إنه كان يمرُّ بالسكين على حَلْقِه والسكين لا يُقطَع، فتعجَّبَ إبراهيمُ، فنودي‏:‏ يا إبراهيم، كان المقصودُ من هذا استسلامكما‏.‏

ويقال إن الله سَتَرَ عليهما عِلْمَ ما أُريد منهما في حال البلاء، وإنما كَشَفَ عنهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة لئلا يَبْطُلَ معنى الابتلاَءَ *** وهكذا يكون الأمر عند البلاء؛ تَنْسَدُّ الوجوهُ في الحال؛ وكذلك كانت حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ في حال حديث الإفك، وكذلك حالة أيوب عليه السلام؛ وإنما يتبيَّنُ الأمرُ بعد ظهور آخر المحنة وزوالها، وإلاَّ لم تكن حينئذٍ محنة ‏[‏إلاَّ أنه يكون في حال البلاء إسبالٌ يُولَى مع مخامرة المحنة‏]‏ ولكن مع استعجام الحال واستبهامه، إذ لو كشف الأمر على صاحبه لم يكن حينئذٍ بلاءٌ؛ قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قيل كان فداء الذبيح يُرَبَّى في الجنة قبله بأربعين خريفاً‏.‏

والناس في «البلاء» على أقسام‏:‏ فبلاءٌ مستعصب وذلك صفة العوام، وبلاء مستعذب وذلك صفة مَنْ يستعذبون بلاياهم، كأنهم لا ييأسون حتى إذا قُتِلُوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَأقَ نَبِيَّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ‏}‏‏.‏

وكلُّ هذا بعد البلاء؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 6‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

مَنَّ عليهما بالنبوة، وبالنجاة من فرعون وقومه، وبنصرته عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

يعني التوراة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

بالتبري عن الحوْل والقوة، وشهود عين التوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 123‏]‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

«إلياس»‏:‏ قيل هو إدريس، وقيل غيره، وكان بالشام، واسمُ صَنَمِهم «بَعْل»، ومدينتهم بعلبك‏.‏‏.‏ نذر قومَه فكذَّبوه، ووَعظَهم فما صَدَّقُوه، فأهلَكَ قومَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

مضت قصتهُ وكيف نجَّى أَهلَه إلا امرأته التي شارَكَتْهم في عصيانهم، فحقَّ العذاب عليها مثلما عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

فكان في أول أمره يطلب الاستعفاء من النبوة، ولكن لم يُعْفَ، ثم استقبله ما استقبله، فلم يلبث حتى رأى نَفْسَه في بطن الحوت في الظلمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

أي بما يُلاََمُ عليه، والحقُّ- سبحانه- مُنَزَّهٌ عن الحيفِ في حُكْمِه؛ إذ الخَلْقُ خَلْقُه، ثم اللَّهُ رَاعَى حقَّ تَعَبُّدِه، وحَفِظَ ذِمامَ ما سَلَفَ له أداء حقَّه فقال‏:‏-

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

فإن كَرَمَ العَهْدِ فينا من الإيمان، وهو مِنَّا من جملة الإحسان، «فالمؤمن قد أخذ من اللَّهِ خُلُقاً حسناً»- بذلك ورد الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

«سقيم»‏:‏ في ضعفٍ من الحال لِمَا أثَّر مِنْ كَوْنِهِ قضى وقتاً في بطن الحوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏‏}‏

لِتُظِلَّه، فإنه كان في الصحراء وشعاعُ الشمس كان يََضُرُّه، وقَيَّضَ له اللَّهُ ظبيةً ذات وَلَدٍ كانت تجيء فيرضع من لبنها، فكأنّ الحقَّ أعاده إلى حال الطفولية‏.‏ ثم إنه رَحِمه، ورجع إلى قومه، فأكرموه وآمنوا به، وكان اللَّهُ قد كَشَفَ عنهم العذاب، لأنهم حينما خَرَجَ يونسُ من بينهم ندموا وتَضَرَّعوا إلى الله لمَّا رَأَوْا أوائلَ العذاب قد أظلَّتْهم، فَكَشَفَ الله عنهم العذاب، وآمنوا بالله، وكانوا يقولون‏:‏ لو رأينا يونسَ لَوَقَّرْناه، وعظَّمْناه، فرجع يونسُ إليهم بعد نجاته من بطن الحوت، فاستقبله قومُه، وأدخلوه بَلَدَهم مُكرّماً‏.‏

ويقال‏:‏ الذَّنْبُ والجُرْمُ كانا من قومه، فهم قد تُوُعِدُوا بالعذاب‏.‏ وأمَّا يونس فلم يكن قد أذنب ولا ألَمَّ بمحظور، وخرج من بينهم، وكَشَفَ اللَّهُ العذابَ عنهم، وسَلِمُوا‏.‏‏.‏ واستقبل يونس ما استقبله بل أنه قاسى اللتيا والتي بعد نجاته؛ ويا عجباً من سِرِّ تقديره‏!‏ فقد جاء في القصة أن الله سبحانه- أوحى إلى يونس بعد نجاته أَنْ قُلْ لفلانٍ الفَخَّار حتى يَكْسِرَ الجِرارَ التي عملها في هذه السنه كلَّها‏!‏ فقال يونس‏:‏ يا رب، إنه قَطَعَ مدةً في إنجاز ذلك، فكيف آمُرُه بأن يَكْسِرَها كُلَّها‏؟‏

فقال له‏:‏ يا يونس، يَرِقُّ قلبُكَ لِخَزّافٍ يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ *** وتريدني أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي‏؟‏‏!‏ يا يونس، إنك لم تخلقهم، ولو خَلَقْتَهم لَرَحِمْتَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

لمَّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بناتُ الله بَيَّنَ اللَّهُ قُبْحَ قَوْلِهم، فقال‏:‏ سَلْهُم من أين قالوا‏؟‏ وبأي حُجَّةً حكموا بما زعموا‏؟‏ وأي شُبْهَةٍ داخَلَتْهم‏.‏ ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات، ويُؤْثِرون البنين عليهن‏.‏‏.‏ ومع كُفرهم وقبيح قولِهم وصفوا القديمَ- سبحانه- بما استنكفوا منه لأَنْفُسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 163‏]‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏‏}‏

أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلاَّ من أَغْوَيْتُه بحُكْمِي، فبه ضَلُّوا لا بإضلالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏‏}‏

الملائكة لهم مقام معلوم لا يَتَخطَّوْنَ مقامَهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياءُ لهم مقام مستورٌ بينهم وبين الله لا يُطْلِعُ عليه أحداً، والأنبياءُ لهم مقام مشهورٌ مؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة فأَمْرُهُم على الشّهْرِ، وأَمْرُ الأولياءِ على السَّتْرِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 171‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

أي سبقت كلمتنا لهم بالسعادة، وتقدَّمَ حُكْمنَا لهم بالولاية والرعاية، فَهُم من قِبَلِنَا منصورون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

مَنْ نَصَرَه لا يُغْلَبُ، ومَنْ قَهَرَه لا يَغْلِب‏.‏

وجُنْدُه الذين نَصَبَهم لنَشْرِ دينه، وأقامَهم لِنَصْرِ الحقِّ وتبيينه‏.‏ مَنْ أَراد إذلالَهم فَعَلى أذقانه يخرُّ، وفي حبل هلاكه ينجرُّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 175‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

توَلَّ عنهم- يا محمد- إلى أن تنقضيَ آجالُهم، وتنتهيَ أحوالُهم، وانتظِرْ انقضاءَ أيامِهم، فإنه سينصرم حديثهم وشيكاً‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 176‏]‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏‏}‏

وإنما قال ذلك فيما كانوا يتمنون قيام الساعة، وكانوا يستعجلون ذلك لِفَرْطِ جهلهم، ثم لقلة تصديقهم‏.‏ فإذا نزل العذابُ بساحتهم، وأناخ البلاءُ بعقوتهم فساء صباحهم‏.‏ فتولَّ عنهم فَعَنْ قريبٍ سيحصل ما منه يَحْذَرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ‏}‏‏:‏ تقديساً له، وسلامٌ على أَنبيائنا، ‏{‏وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏‏:‏ أي هو المحمود على ما ساءَ أم سَرَّ، نَفَعَ أم ضَرَّ‏.‏

سورة ص

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الصَّادُ مفتاحُ اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع *** أقسم بهذه الأشياء‏.‏ وبالقرآنِ‏.‏ وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ أقسم بصفاءِ مودةِ أحبابه والقرآنِ ذي الذكر أي‏:‏ ذي الشرف *** وشَرفُه أنه ليس بمخلوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

في صلابةٍ ظاهرة، وعدواة بَيِّنة، وإعراضٍ عن البحث للأدلة، والسِّرِّ للشواهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

بادوا حين هَجَمَ البلاءُ مستغيثين، وقد فات وقتُ الإشكاء والإجابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عَجِبُوا أن جاءَهم مُنْذِرٌ منهم، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتاتُ آلهةً، وهذه مناقضة ظاهرة‏.‏ فلمَّا تحيَّروا في شأن أنبيائهم رَمَوْهم بالسحر، وقسَّموا فيهم القول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم، وبعدوا عن ذلك تجوزاً، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحُكْماً، فلا عَرَفُوا الإلهَ ولا معنى الإلهية؛ فإنَّ الإلهيةَ هي القدرة على الاختراع‏.‏ وتقديرُ قادِرَيْنِ علىلاختراع غيرُصحيح لِما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، ثم إنَّ ذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كامِلي الوصفِ لم يكونا إِلَهْين، وكلُّ أمرٍ جرى ثبوتُ سقوطِ فهو مطروحٌ باطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

إذا تواصى الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ركنوا إلى السوء والعادة، وما وجدوا عليه أسلافَهم من الضلالة، واستناموا إلى التقليد والهوادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أي لو استبصروا في دينهم لَمَا أَقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، ولولا أَنَّا أَدَمْنا لهم العوافيَ لَماَ تَفَرَّغُوا إلى طغيانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أي‏:‏ هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا، وكّذَّبوا واحتجُّوا *** أعندهم شيءٌ من هذه لأشياء‏؟‏ أم هل هم يقدرون على شيءٍ من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا، ويعطوا من شاؤوا، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحي على مَنْ أرادوا‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

بل هم جُنْد من الأحزاب المحزبين‏.‏ كُلُّهم عَجَزَةٌ لا يقدرون على ذلك، مهزومون‏.‏ شَبَّهَهُم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين؛ فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حُجَّةُ، ولا لهم قوة، ولا لأصنامهم أيضاً من النفع والضر مُكْنَة، ولا في الردِّ والدفع عن أنفسهم قدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ذَكَرَ هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع، وفي غير هذا الموضع على الإفراد، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

أي ما كان منهم أحدٌ إلاَّ كَذَّبَ الرسلَ فحقَّت العقوبةُ عليه، واستوجَبَ العذابَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة، وما هي إلا صيحة واحدة، وإذا قامت فإنها لا تسكن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

اصْبرْ- يا محمد- على ما يقولون، فإنه لن تطولَ مُدَّتُهم، ولن نَمُدَّ- في مقاساتِكَ أَذَاهم- لُبْثَكَ ومُكْثَكَ، وعن قريبٍ سينزل اللَّهُ نَصْرَه، ويصدق لك بالتحقيقِ وَعْدَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏ذَا الأَيْدِ‏}‏ أي ذا القوة، ولم تكن قُوَّتُه قوةَ نَفْسٍ، وإنما كانت قوته قوةَ فِعْلٍ؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً- وهو أشدُّ الصوم، وكان قوياً في دين الله بِنَفْسِه وقلبه وهمته‏.‏

‏{‏أَوَّابٌ‏}‏ رَجَّاع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

كان داود يُسَبِّح، والجبالُ تُسَبِّح، وكان داود يفهم تسبيحَ الجبالِ على وجهِ تخصيصٍ له بالكرامة والمعجزة‏.‏

وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبِّح الله، وداود كان يعرف تسبيحَ الطير؛ وكلُّ مَنْ تَحقَّقَ بحاله ساعَدَه كلُّ شيءٍ كان بقُرْبِه، ويصير غيرُ جِنْسِه بحُكْمِه، وفي معناه أنشدوا‏:‏

رُبَّ ورقاءَ هتوفِ بالضُّحى *** ذات شجوٍ صَرَخَتْ في فَنَنِ

ذَكَرَتْ إلفاً ودهراً صالحاً *** وبَكَتْ شوقاً فهاجَتْ حَزَني

فبُكائي رُبَّما أَرَّقَها *** وبكاها ربما أَرَّقني

ولقد تشكو فما أفهمها *** ولقد أشكو فما تفهمني

وغير أني بالجوى أعرفها *** وهي أيضاً باجوى تعرفني

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أي قوَّيْنا مُلْكَه بأنصاره، وفي التفسير‏:‏ كان يحفظ مُلْكَه كلَّ ليلةٍ ثلاثةٌ وثلاثون ألفَ رجلٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَشَدَدنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ‏}‏‏.‏

أي شددنا مُلْكَه بنصرنا له ودَفْعِنا البلاَءَ عنه‏.‏

ويقال شدنا مُلْكَه بالعدل في القضية، وحُسْنِ السيرة في الرعية‏.‏

ويقال شددنا ملكه بقبض أيدي الظَّلَمَة‏.‏

ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين‏.‏

ويقال شددنا مُلْكَه بأن رأى النصرةَ مِنَّا، وَتَبرَّأَ من حَوْلِه وقُوَّتِه‏.‏

ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلُّونه على ما فيه صلاح مُلْكه‏.‏

ويقال بِتَيَقُظِه وحُسْنِ سياسته‏.‏ ويقال بقبوله الحق من كلِّ أحد‏.‏

ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات‏.‏

‏{‏وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ‏}‏‏:‏ أي أعطيناه الرُّشْدَ والصوابَ، والفَهْمَ والإصابة‏.‏

ويقال العلم بنفْسِه وكيفية سياسة أمته‏.‏

ويقال الثبات في الأمور والحكمة، وإِحكام الرأي والتدبُّر‏.‏

ويقال صحبة الأبرار، ومجانبة الأشرار‏.‏

وأمَّا ‏{‏وَفَصْلَ الْخِطَابِ‏}‏ فهو الحكم بالحق، وقيل‏:‏ البينة على مَنْ ادَّعىَ واليمين على مَنْ أنكر‏.‏ ويقال‏:‏ القضاء بين الخصوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ‏}‏ الآيات‏.‏

أرسل اللَّهُ إلى داود عليه السلام مَلَكَيْنِ من السماء على صورة رجلين فتحاكَمَا إليه تنبيهاً له على ما كان منه من تَزَوُّجِه بامرأة أوريا، وكان تَرْكُ ذلك أَوْلَى-هذا على طريق مَنْ رأى تنزيهَ الانبياءِ عليهم السلام من جميع الذنوب‏.‏

وأمَّا مَنْ جَوَّزَ عليهم الصغائر فقال‏:‏ هذا من جملته‏.‏ وكنَّى الخَصْمان باسم النعجة عن النساء‏.‏

وكان داود عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى‏:‏ إِنَّي لأَجِدُ في التوراة أنَّكَ أعطيتَ الأنبياءَ الرُّتَبَ فأَعْطِنِيها، فقال‏:‏ إِنهم صبروا فيما ابتَلَيْتُهم به، فوعد داودُ من نَفْسِه الصبرَ إذا ابتلاه طمعاً في نَيْلِ الدرجات، فأخبر اللَّهُ تعالى أنه يبتليه يومَ كذا، فجعل داودُ ذلك اليوم يوم عبادة، واختلى في بيته، وأَمَرَ حُرَّاسَه ألا يؤذيَه أحدٌ بالدخول عليه، وأغلق علىنَفْسِه البابَ، وأخذ يُصَلِّي زماناً، ويقرأ التوراةَ زماناً يتعبَّد‏.‏ أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غَلْق بابِ السماء‏.‏ وأَمَرَ حَرَسَه أن يدفعوا عنه الناسَ وكنوا ثلاثين ألف رجل- ويقال أربعة آلاف- ولكن لم يُمْكِنْهم أَنْ يدفعوا عنه حُكْمَ القضاء، ولقد قال الحكماء‏:‏ الهاربُ مما هو كائن في كَفِّ الطالبِ يتقلب‏.‏

وكانت في البيت كوَّةٌ يدخل منها الضوء، فَدَخَلَ طيرٌ صغيرٌ من الذهب، ووقع قريباً منه، وكان لداود ابنٌ صغيرٌ فَهَمَّ أن يأخذَه ليدفعَه إلى ابنه، فتباعَدَ عنه‏.‏ وجاء في التفاسير‏:‏ أنه كان إبليس، قد تصوَّر له في صورة طير، فَتَبِعَه داود، ولم يزل الطائرُ يتباعد قليلاً قليلاً، وداود يتبعه حتى خَرَجَ من الكوة، وَنَظَر داود في إثره فَوَقَعَ بَصَرُه على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردةً، فعاد إلى قلبه منها شيء، فكان هذا السبب‏.‏

ويقال لم يَرْعَ الاهتمامَ بسبب وَلَدِه حتى فعل به ما فعل، وفي ذلك لأولي الأبصار عِبْرَةٌ‏.‏

ويقال لم يكن أوريا قد تزوَّجَ بها بَعْدُ، وقد كان خَطَبَها، وأجابَتْه في التزوج به، فَخَطَبَ داود على خِطْبَتِه‏.‏ وقيل بل كانت امرأتَه وسأله أن ينزل عنها، فَنَزَلَ علىأمره وتزوجها‏.‏ وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقُتِلَ وتزوَّج بها‏.‏ فلمَّا تَسَوَّرَ الخصمان عليه، وقيل دَخَلاَ من سور المحراب أي أعلاه ولذلك‏:‏-

‏{‏فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَان بَغَا بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ‏}‏‏.‏

نحن خصمان ظَلَمَ بعضُنا بعضاً، فاحكُمْ بيننا بالعدل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أَكْفِلْنِيهَا‏}‏ أي انزلْ عنها حتى أكفلَها أنا، ‏{‏وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ‏}‏‏.‏ أي غلبني، فقال داود‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ‏}‏ فضحك أحدهما في وجه صاحبه، وصَعدَ إلى السماء بين يديه، فَعَلِمَ داودُ عند ذلك انه تنبيهٌ له وعتابٌ فيما سَلَفَ منه، وظنَّ واستيقن أنه جاءَتْه الفتنةُ الموعودة‏:‏

‏{‏فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ‏}‏‏.‏

أخذ في التضرع، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوماً لا يرفع رأسَه من السجود إلا ‏(‏للصلاة‏)‏ المكتوبة عليه، وأخذ يبكي حتى نَبَتَ العُشبُ من دموعه، ولم يأكل ولم يشرب في تلك المدة، حتى أوحى اللَّهُ إليه بالمغفرة، فقال‏:‏ يا رب، فكيف بحديث الخصم‏؟‏ فقال‏:‏ إني استوهبْتُك منه، وقال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

إن له عندنا لَقُربةً وحُسْنَ رجوع، وقيل‏:‏ كان لا يشرب الماء إلا ممزوجاً بدموعه‏.‏ ويقال لمَّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وَجَدَ المغفرةَ والتجاوز *** وهكذَا مَنْ رجع في أوائل الشدائد إلى الله فاللَّهُ يكفيه مما ينوبه، وكذلك مَنْ صَبَرَ إلى حين طالت عليه المحنة‏.‏ ويقال إنَّ زَلّةً أَسَفُكَ عليها يوصلك إلى ربِّك أَجْدَى عليك من طاعةٍ إعجابُكَ بها يُقْصِيكَ عن ربِّك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً‏}‏ أي بعد مَنْ تَقَدَّمَكَ من الأنبياء عليهم السلام‏.‏ وقيل حاكماً من قِبَلِي لتحكمَ بين عبادي بالحقِّ، وأوصاه بألا يتبعَ في الحكم هواه تنبيهاً على أنَّ أعظمَ جنايات العبد وأقبحَ خطاياه متابعةُ الهوى‏.‏

ولما ذَكَرَ اللَّهُ هذه القصة أعقبها بقوله‏:‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ‏}‏ «باطلاً» أي وانا مُبْطِلُ في خلقهما، وبل كان لي ما فعلْتُ وأنا فيه مُحِقٌّ‏.‏

ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقِّ‏.‏

ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏مُبَارَكٌ‏}‏ وهو القرآن، ومبارك أي كبيرُ النّفْعِ، ويقال مباركٌ أي دائمٌ باقٍ لا ينسخه كتابٌ؛ مِنْ قولهم بَرَكَ الطيرُ علىلماء‏.‏ ويقاَل مباركٌ لِمَنْ آمَنَ به وصَدَّقَ‏.‏ ثم إنه بَيَّنَ أَنَّ البركةَ في تَدَبُّرِهِ والتفكُّرِ في معانيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ‏}‏ لأنه كان أَوَّباً إلى الله، راجعاً إليه في جميع الأحوال؛ في النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏الصَّافِنَاتُ‏}‏ جمع صافنة وهي القائمة، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم؛ إذ ترفع إحدى اليدين عل سُنْبُكِها‏.‏ وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غَزَا أهلَ دمشق، وأصابَها منهم، وقيل وَرِثَهَا عن أبيه داود وكان قد أصابها من العمالقة، وقيل كانت خيلاً لها أجنحة خرجت من البحر‏.‏

وفي بعض التفاسير عُرِضَ عليه عشرون ألف فرسٍ فَشَغَلَتْه عن بعض أذكاره لله‏.‏

‏{‏بِالْعَشِىِّ‏}‏‏:‏ في آخر النهار، وقيل كان ذلك صلاة العصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أي لَصقْتُ بالأرض لحُبِّ المال‏.‏ ويقال لمَّا سَبَّلَ هذه الأفراس عَوَّضَه الله- سبحانه- بأن سَخَّرَ له الريح، وهذا أبلغ، وكلُّ مَنْ تَرَكَ شيئاً لله لم يخسر على الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراماً منه لها بعد لها بعدأن فَرَغَ من صلاته‏.‏

وقيل عَرْقَبَها ‏(‏ليذبحها فَحَبَسَها بالعرقبة عن النفار‏)‏، وقيل وَضَعَ عليها الكيَّ فَسَبَّلَها، وإيش ما كان فكلُّ ذلك كان جائزاً في شرعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

اختلف الناسُ في هذه الفتنة؛ ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال‏:‏ «لأَطوفَنَّ على هؤلاء فيولد من كل واحدةٍ منهن غلام يقاتل في سبيل الله» ولم يَقُلْ إن شاء الله، ولم تَحْمِلْ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشق مولود، فألقته على كرسيِّه، فاستغفر ربه من تَرْك الاستنشاء، وكان ذلك ترك ما هو الأَوْلَى‏.‏

وقيل كان له ابن، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه، فَهَمُّوا بقَتْلِه، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطينن، فمات الولد، وألفته الريح على كرسيه ميتاً‏.‏ فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء، وكان الأوْلَى به التوكل وتَرْكَ الاستعانة بالريح‏.‏

وقيل في التفاسير‏:‏ إنه تزوج بامرأة كانت زوجة مَلِكٍ قهره سليمان، وسَبَاها، فقالت له‏:‏ إن أَذِنْتُ لي أَنْ اتَّخِذَ تمثالاً على صورةٍ لأبي لأتسلَّى بنظري إليه‏؟‏ فأَذِنَ لها، فكانت ‏(‏تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوماً‏)‏، وكانت تعبده سِرّاً، فعوقب عليه‏.‏

وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت مِنْ أَحَبِّ نسائه إليه، وكان إذا أراد دخول الخللاء نَزَعَ خاتمه ودَفَعَه إليها، وهي على باب الخلاء، فإذا خَرَجَ استردَّه‏.‏ وجاء يوماً شيطانٌ يُقَال له «صخر» على صورة سليمان وقال لامرأته‏:‏ ادفعي إليَّ الخاتم فدفعته، ولبسه، وقعد على كرسيه، يُمَشِّي أمورَه-إلا التصرفَ في نسائه- فقد منعه اللَّهُ عن ذلك‏.‏ فلمَّا خرج سليمانُ طَالَبَ المرأة بالخاتم، فقالت‏:‏ الساعةَ دَفَعْتُه إليك‏.‏ فظَنَّ أنه فُتِنَ، وكان إذا أخبر الناسَ أنه سليمان لا يُصَدِّقُونه، فخرج ‏(‏هارباً إلى ساحل البحر‏)‏، وأصابته شدائد، وحمل سَمَكَ الصيادين بأجرةٍ حتى يجدَ قُواتاً‏.‏

ولما اتهم ‏(‏بنو إسرائيل‏)‏ الشيطانَ ‏(‏واستنكروا حُكْمَه‏)‏ نشروا التوراة بين يديه ففرَّ ورمى بالخاتم في البحر، وطار في الهواء‏.‏ ولمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَدَّ مُلْكَ سليمان إليه، ابتلعت سمكةٌ خاتمه، ووقعت في حبال الصيادين، ودفعوها إلى سليمان في أجرته، فلمَّا شقَّ بَطْنَهَا ورأى خاتَمه لبسه، وسَجَدَ له الملاحون، وعاد إلى سرير مُلْكَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

أي مُلْكاً لا يسلبه أحدٌ مني هذا كما سُلِبَ مني في هذه المرة‏.‏

وقيل أراد انفراده به ليكونَ معجزةً له على قومه‏.‏

وقيل أراد أنه لا ينبغي لأحدٍ من بعدي أن يسأل المُلْكَ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله في اختياره له‏.‏

ويقال لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغي من بعدي لأحدٍ من الملوك‏.‏

وإنما سأل المُلْكَ لسياسة الناس، وإنصافِ بعضهم من بعض، والقيام بحقِّ الله، ولم يسأله لأَجْلِ مَيْلِه إلى الدنيا *** وهو كقول يوسف‏:‏ ‏{‏اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

ويقال لم يطلب المُلْكَ الظاهرَ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ-على الحقيقة- مَنْ يَمْلِكَ نَفْسَه، ومَنْ مَلََكَ نَفْسَه لم يَتَّبعْ هواه‏.‏

ويقال أراد به كمالَ حالهِ في شهود ربِّه حتى لا يَرَى معه غيرَه‏.‏

ويقال سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار‏.‏

ويقال علم أن سِرَّ نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- ألا يلاحِظَ الدنيا ولا ملكَها فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مِّن بَعْدِى‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ لا لأنه بَخِلَ به على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

شكَرَ اللَّهُ سَعْيَه، وسَخَّرَ له الريحَ بَدَلاً من الأفراس؛ فلا يحتاج في إمساكها إلى العَلَفِ والمُؤَنِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

كما سخَّرنا له الشياطين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هَذَا عَطَآؤُنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أي فأَعْطِ أَو أَمْسِكْ، واحفظْ وليس عليك حساب‏.‏

والمشيُ في الهواء للأَولياء، وقَطْعُ المسافاتِ البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعاً في الأمه- وإنْ لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين‏.‏ وإظهاره على خَدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه يَدُلُّ على أن مقامه- صلى الله عليه وسلم- أشرف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البَلِيَّة، وقيل لما كان قال ‏(‏أي الشيطان‏)‏ لامرأته‏:‏ اسجدي لي حتى أردَّ عليكم ما سلبتكُم‏.‏

ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظومٌ فلم يَنْصُرْه *** فابتُلِيَ‏.‏

ويقال استضافَ الناسَ يوماً فلمَّا جاءَه ابنُ فقيرٍ مَنَعَه من الدخول‏.‏

ويقال كان يغزو مَلِكاً كافراً، وكان لأيوب غَنَمٌ في ولايته، فداهَنَه لأَجْلِ غَنَمِه في القتال‏.‏

ويقال حَسَدَه إبليسُ، فقال‏:‏ لَئِنْ سَلَّطْتني عليه لم يشكر لك‏.‏

ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحدٍ، فَجَرَّ الشيطانُ الاسطوانة فانهدم البيت عليهم‏.‏

ويقال لبث أيوب في البلاء ثماني عشرة سنه، وقيل أربعين سنة، وقيل سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لمَّا أراد اللَّهُ كَشْفَ البلاءِ عنه قال له‏:‏ ‏{‏ارْكُضْ بِرِجْلِكَ‏}‏، فركض، فظَهَرت عينُ ماءٍ باردٍ فاغتسل به، فعاد إليه جمالُه وكمالُه‏.‏ وقيل الأولى كانت عيناً حارةً والثانية باردة، واغتسل، ورَدَّ الله وشَعْرَه وبشره، وأحيا أولاده وأهله، وقيل بل يردُّهم إليه في الجنة في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

الضِغْث الحزمة من القضبان، وقيل كانت مائة، وأُمِرَ بأن يضرب بها دفةً على امرأته لئلا يحنث في يمينه، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائةَ خشبةٍ إِنْ صحَّ ‏(‏أنها أخطأت‏)‏‏.‏ فَشَكَرَ اللَّهُ لها لبراءةِ ساحتِها، وصبرها على خدمته‏.‏ وسببُ يمينه أنه لما قال لها إبليسُ‏:‏ اسجدي لي؛ أخبرت أيوبَ بذلك، فغاظه حيث سمعت من إبليس ذلك وظنَّتْ أنه صادق‏.‏ وقيل باعت ذوائبها برغيفين حملتهما إليه فتوهَّمَ في ذلك رِيبةً، وكان أيوب يتعلَّق بذوائبها ‏(‏إذا أراد القيام‏)‏‏.‏ وقيل رابه شيءٌ منها فَحَلَف ‏(‏أن يضربها بعد شفائه‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ والصبرُ ألا تعترضَ على التقدير‏.‏

ويقال الصبر الوقوف تحت الحُكْم‏.‏ ويقال التلذُّذ بالبلاء، واستعذابُه دون استصعابه‏.‏ ويقال اصبر الوقوف مع الله بحسن الأدب‏.‏

ولم يَنْفِ قولُه ‏{‏مَسَّنِىَ الضُّرُّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏ اسمَ الصبرِ عنه؛ لأنَ ذلك لم يكن على وجه الشكوى، ولأنه كان مرة واحدة، وقد وقف الكثيرَ من الوقت ولم يَقُلْ مَسَّني الضُّرُّ؛ فكان الحُكْمُ للغالب‏.‏

‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ لم يشغلْه البلاءُ عن المُبْلِي‏.‏ ونِعْمَ العبدُ لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏أُوْلِى الأَيْدِى‏}‏‏:‏ أي القوة‏.‏ ‏{‏وَالأَبْصَارِ‏}‏ أي البصائر‏.‏

‏{‏إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ‏}‏‏:‏ أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار، أوبدعاء الناس إلى الجنة والهرب مِنَ النار‏.‏ ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين؛ فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء‏.‏ ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكري الدار، ‏{‏وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَا الْكِفْلِ‏}‏‏:‏ قيل كان تَكَفَّلَ لله بعمل رجلٍ صالحٍ مات في وقته، وقيل كَفَلَ مائةً من بني إسرائيل هربوا من أمير لهم ظالمٍ، فكان يُنْفِقُ عليهم‏.‏

ويقال كان اليسعُ وذو الكفل أَخَوَيْن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏‏}‏

أي هذا القرآن فيه ذِكْرُ ما كان، وذِكْرُ الأنبياء والقصص‏.‏

ويقال إنَّه شرفٌ لك؛ لأن معجزةٌ تدل على صِدْقِك، وإن للذين يتَقَّوُن المعاصِيَ لَحُسْنَ المُنْقَلَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

أي إذا جاؤوها لا يلحقهم ذُلُّ الحجاب، ولا كُلْفَةُ الاستئذان، تستقبلهم الملائكةُ بالترحاب والتبجيل‏.‏ متكئين فيها على أرائكهم، يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرة وشارب على ما يشتهون، وعندهم حورٌ عين قاصراتُ الطَّرْفِ عن غير أزواجهن، ‏(‏أتراب‏)‏‏:‏ لِدَاتٌ مُستَوِيَاتٌ في الحُسْنِ والجمال والشكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

لَشَرَّ مَرْجع ومُنْقَلَبٍ؛ وهي جهنم يدخلونها فيبقون مُعّذَّبِين فيه، وبِئْس المكانُ ذلك‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

«حميم»‏:‏ هو الماء الحلو، و«غسَّاق» هو عصارة أهل النار، ويقال هو زمهرير جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏‏}‏

هؤلاء قومٌ يقتحمون النارَ معكم وهم أتابعكم، ويقول الأتباع للمتبوعين‏:‏ لا مرحباً بكم؛ أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم، ويقولون‏:‏

‏{‏رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هّذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النّارِ‏}‏‏.‏

فيقال لهم كُلُّكُم فيها، ولن يفترَ العذابُ عنكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏‏}‏

يقول الكفار عندما يدخلون النار‏:‏ ما لنا لا نرى رجالاً كُنَّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين *** فَلَسْنَا نراهم ها هنا‏؟‏ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارُنا‏؟‏ يقوله أبو جهل وأصحابُه يعنون بلالاً والمستضعفين، فيُعَرَّفون بأنهم في الفردوس، فتزداد حسراتُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏‏}‏

أي إن مخاصمةَ أهل النارِ في النار لَحَقٌّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قل يا محمد‏:‏ إنما أنا مُنْذِرٌ مخوِّفٌ، مُبَلِّغٌ رسالةَ ربي، وما من إلهِ إلا الله الواحد الذي لا شريك له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

أي الذي أَتَيْتُكم به من الاخبار عن القيامة والحَشْرِ، والجنة والنار، وما أخبرتكم به عن نُبُوَّتي وصِدْقي هو نبأ عظيمٌ، وأنتم أعرضْتُم عنه‏.‏

وما كان لي من عِلْم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لولا أَنَّ الله عَرَّفني، وإلا ما كُنْتُ عَلِمْتُه‏.‏ والملأَ الأعلّى قومٌ من الملائكة في السماء العليا، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قولوا‏:‏ أتجعل فيها مَنْ يُفْسِد فيها‏؟‏

وقد ورد في الخبر‏:‏ «أن جبريل سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الاختصام فقال‏:‏ لا أدري‏.‏ فقال جبريل‏:‏ في الكفارات والدرجات؛ فالكفارات إسباغُ الوضوء في السَّبْرَات، ونَقْل الأقدامِ إلى الجماعات، وأما الدرجات فإفشاءُ السلام، وإطعامُ الطعام، والصلاةُ بالليل والناسُ نيام»، وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها- فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا، ولكنهم في الأصل لا يجحدون‏.‏

*** وهذا إنما يُوحى إليَّ وأنا منذرمبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

إخباره الملائكة بذلك إنما يَدُلُّ على تفخيم شأن آدم؛ لأنه خَلَقَ ما خَلَقَ من الكونين، والجنة والنار، والعرش والكرسي، والملائكة، ولم يقل في صفة شيءٍ منها ما قال في صفة آدم وأولاده‏.‏ ولم يأمر بالسجود لأَحَدٍ ولا لشيءٍ إلا لآدم، وسبحان الله‏!‏ خَلَقَ أَعَزَّ خَلْقِه من أَذَلِّ شيءٍ وأَخَسِّه وهو التراب والطين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

روحُ آدم- وإنْ كانت مخلوقة- فَلَها شَرَفٌ على الأرواح لإفرادها بالذكر، فلمَّا سوَّى خَلْقَ آدم، ورَكَّبَ فيه الروح جلَّلَه بأنوار التخصيص، فوقعَتْ هيبته على الملائكة، فسجدوا لأمره، وظهرَتْ لإبليسَ شقاوتهُ، ووقع- بامتناعه- في اللعنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

من هنا وقع في الغلط؛ تَوَهَّمَ أَنَّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية، ولم يعلم أن التفضيلَ من حيث القسمة دون الخِلْقَة‏.‏

ويقال ما أودع اللَّهُ- سبحانه- عند آدم لم يوجد عند غيره، ففيه ظهرت الخصوصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قال فاخرج من الجنة، ومن الصورة التي كنت فيها، ومن الحالة التي كنتَ عليها، ‏{‏فإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ مَرْمِيٌّ باللَّعنِ مني، وبالشُّهب من السماء، وبالرجوم من قلوب الأولياء إنْ تَعَرَّضْتَ لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏‏}‏

من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه، وتعلَّقت إرادتُه بسؤال إنظاره، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته، فأَنْظَرَهُ اللَّهُ، وأجابه، لانه بلسانه سأل تمامَ شقاوته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

ولو عَرَفَ عِزَّتَه لَمَا أقسم بها على مخالفته‏.‏

ويقال تجاسُرُه في مخاطبة الحقِّ-حيث أصَرَّ على الخلاف وأقسم عليه-أَقْبَحُ وأَوْلى في استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقََّ أَقُولُ لأَمَلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

وختم الله سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ‏}‏‏.‏

ما جئتكم من حيث أنا، ولا باختياري، وإنما أُرْسِلْتُ إليكم‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ يعني القرآن، عظة لكم‏.‏

‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ‏}‏ وعُلِمَ صِدْقُه بعد ما استمرت شريعتُه، فإن مثل ذلك إذا كان باطلاً لا يدوم‏.‏